( العدسة )
★ قراءات نقدية ودراسات تحليلية للنصوص الأدبية
بقلم الأديب الراقي
هاني الشرقاوي
............
...........
العدسة )
★★★★
★ قراءات نقدية ودراسات تحليلية للنصوص الأدبية بمختلف أجناسها؛ للوقوف على نقاط القوة ومواطن الضعف بغض النظر عن كاتبها وحجمه الأدبي.
★ الدراسة الخامسة
نص من جنس القصة القصيرة جدا بعنوان ( فرح ) للدكتورة/ نجاح سرطاوي.
★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★
( النص )
★★★★★★★
فرحةٌ
وُلِدَ سليمَ الجسمِ والعقلِ، تكلمَ منذُ صغَرِهِ ببعضِ الكلمات، أخذَ جرعةً فاسدةً من جرعاتِ الأطفالِ الوقائيةِ، على إثرها فقدَ الكلامَ، لم يترُكْ أبواهُ مكانًا للعلاجِ إلا وطرقاهُ ، بعدَها تبيَّنَ أنهُ يشكو مرضَ التوَحُّدِ، لجآ إلى طبيبٍ ماهرٍ حاذقٍ ، خرقتْ كلمةُ ماما سَمْعَها بعدَ ثماني سنواتٍ ، لتقعَ على الأَرْضِ جثّةً هامدةً.
...........................................................................
( مدخل ومقدمة للقصة والدراسة النقدية )
★★★★★★★★★★★★★★★★★★
★ القصة متكاملة الأركان، توافرت لها عوامل النجاح؛ فالفكرة مستحدثة وليست مستهلكة، بالإضافة إلى عنوان غير كاشف لمضمون القصة، وسرد قصصي مرتب ومنظم، ولغة سليمة وراقية، وخاتمة غير متوقعة.
★ القصة من نوع القصص الاجتماعي الذي يناقش قضايا اجتماعية وحياتية تهم القارئ ويكاد يقابلها يوميًا أو قد تكون أحداث القصة حدثت معه بشكل أو بآخر.
★ وهذا ينم عن ذكاء القاصة، فأي كاتب أو كاتبة يهم كل واحد منهما أن يلتف حوله القراء، فيحاول أن ينمق بضاعته ويزينها حتى ينجذب إليها أكبر قدر ممكن من المتابعين.
وهذا ما فعلته القاصة حيث أنها استطاعت جذب أنظار القارئ وسلبت عقله بهذه الاستهلالة، فجعلته يتفاعل معه أحداث القصة وكأنه جزء من شخصياتها.
..................................................................................
( التحليل الأدبي والدرامي للقصة )
★★★★★★★★★★★★★★★★
★ تتحدث القصة عن ولادة طفل لأسرة ربما انتظرت ولادته وفرحت به فرحًا شديدًا .
وتركت القاصة للقارئ أن يتخيل مدى فرحة هذه الأسرة بمولودها من خلال العنوان ( فرحة ).
لكن فجأة انقلب الفرح إلى مأتم وهذا مسار خطير في أحداث القصة.
فكلنا تخيلنا أن الطفل ستمر أيامه كباقي أقرانه في فرح وحزن وسعادة وألم ...
فكل طفل يولد يوضع له جدول معين يتناول فيه الأدوية والعقاقير الطبية التي تحميه من أمراض الشلل والفيروسات الكبدية، وهي جرعات وقائية يتناولها كل الأطفال منذ ولادتهم بانتظام حتى سن سنتين تقريبا.
لكن هذا الطفل المسكين ضربه الإهمال الطبي في مقتل؛ إذ حقن بجرعة فاسدة من تلك الأدوية؛ فجعلته يفقد القدرة على الكلام.
وإني أرى أصابعكم تشير باتهام الطاقم الطبي الذي حقنه بتلك الحقنة الفاسدة.
وقد يكون اتهامكم صحيحًا وقد يكون أيضًا أن هذا الأمر ناتج عن استيراد صفقات دوائية فاسدة ومنتهية الصلاحية من قبل بعض أباطرة الدواء
فالمهم عند هؤلاء هو تعبئة جيوبهم وخزائنهم بالأموال بغض النظر عن أية اعتبارات أخلاقية أو إنسانية، وبالطبع يكون الضحية الشعوب المطحونة والمغلوبة على أمرها.
أي أن طفلنا وقع ضحية الإهمال والفساد وافترسته الأطماع البشرية؛ فاغتالت صحته ومستقبله ودمرت بالضرورة آمال وطموحات أسرته وذويه.
★ وبدأت رحلة العلاج، وأجادت القاصة في أنها جعلت القارئ يتفاعل مع تلك الأسرة المنكوبة، ويتعاطف مع طفلنا ضحية الإهمال والفساد، بل ربما بحث القارئ عن طبيب ماهر وكأنه من شخوص القصة.
طرقت الأسرة كل الأبواب؛ أملًا في العلاج والشفاء وبحثًا عمن يمسح دموع الطفل المسكين ويهدهد جسده المريض.
★ ومن الطبيعي بعد هذا الإهمال الطبي والإصابة بالصمم أن يتقوقع الطفل داخل ذاته ويعيش في عالمه الخاص؛ فهو يرى من حوله وجوها تضحك وتبكي وشفاها تنطق لكن بلا ترجمة أو تفسير.
وصدمتنا القاصة بأنه نتيجة ذلك أصيب الطفل بالتوحد وهو مرض العصر الذي يفترس براءة الأطفال ويقضي على الأخضر واليابس من حديقة حياتهم.
★ التوحد "Autism": هو اضطراب مهم يسمى اضطرابات طيف التوحد أو اضطرابات النمو الشائعة سابقًا
ومن أعراضه:
١/ ضعف في التفاعل الاجتماعي ومهارات الاتصال
٢/ أن يكون في عالمه الخاص دائما ، لا ينظر إليك عندما تناديه، المشي على أصابع قدميه ،
٣/ التأخير في بداية الحديث أو التوقف عن الحديث ، التراجع في الكلام ، عدم استخدام الكلام في التفاعل الاجتماعي حتى لو كان يتحدث ، تكرار ما يقال ، استخدام الضمائر بالعكس (بدلاً من أنا ، يستخدم هو).
★ المشكلة في أن متلازمة التوحد هي داء العصر؛ نتيجة ضعف التواصل الأسري وانشغال الأسرة عن أبنائها بالأعمال أو أي أمور أخرى، فتجد الطفل ليلًا ونهارًا لا يفلت الهاتف من يده أو لا تزوغ عينه عن برامج الأطفال.
فيجب على الآباء أن ينتبهوا لذلك ويحسنوا تربية أبنائهم ويمنحونهم الوقت الكافي للعب والتنزه والتواصل مع أقرانهم من الأطفال؛ حتى ينجو الجميع من براثن التوحد ومخاطره الجسيمة.
★ثم كانت المفارقة في أن هذا الطفل كان شفاؤه على يد طبيب حاذق ماهر
وشتان الفارق بين طبيب مهمل تسبب في إحداث عاهة مستديمة وبين طبيب ماهر مسح دموع الألم ونفض عن كاهل الأسرة أوجاعًا كالجبال.
هذا الفارق هو يمثل الصراع الأبدي بين الخير والشر وبين الصلاح والفساد .. هو الحياة بوجهيها الأبيض والأسود.
★ وكان من المفترض أن تنتهي القصة بتلك النهاية السعيدة والتي يتحقق فيها عنوان القصة ( فرحة ) لكننا فوجئنا بوفاة الأم بعد سماعها لكلمة ( ماما ) وهي أول كلمة نطق بها الطفل بعد شفائه، وكأنه أراد أن يكافئها على كل ما بذلته معه من جهود وأن يعوضها عن كل ما أنفقته من صحتها ووقتها ومالها فداء لوليدها.
..............................................................................
( التحليل الفني واللغوي للقصة )
★★★★★★★★★★★★★★★
( العنوان )
★★★★★
( فرحة) عنوان بسيط غير كاشف لمضمون القصة يدعو للتفاؤل ويدفعنا للقراءة والولوج في دهاليز فكر القاصة، وقد يبرز تساؤل : أين الفرحة في القصة؟
اللقطة المضيئة كانت في شفاء الطفل وتلك اللحظة كانت الفرحة الكبرى للأسرة وللقارئ وقبلهما للطفل.
★ربما بنت القاصة عنوانها على أساس كلمة ( ماما ) وهي الجملة الحوارية الوحيدة في النص، هذه الكلمة تبعث الروح والسرور في النفوس، فهي الكلمة التي تبنى عليها الأسر ، وهي الكلمة التي تطرب لها آذان الأمهات.
وكلمة ( ماما ) في قصتنا هي مصدر السعادة والفرحة في كل الأوقات سواء عند الولادة أو بعد الشفاء بل إن وفاة الأم كان تحت تأثير الفرحة الشديدة.
_______________________________________________
( الصراع )
★★★★★
★ كان الصراع في القصة معقدًا تعقيدًا شديدًا حيث أجادت القاصة في بنائه وتشكيل خيوطه بمهارة بل الإبداع في تفكيكه وحل عقده بسلاسة وسهولة حتى تخيلنا أنه لم يوجد من الأساس صراع.
★ انقسم الصراع في القصة إلى قسمين :
( أ ) صراع نفسي داخلي وهو أشد أنواع الصراع تأثيرًا على الإنسان، وبزغ هذا الصراع في علاقة الطفل مع حاجياته ومع تعامل الأسرة والبيئة المحيطة معه، وربما حتى في وخزة ضمير لمن تسبب فى كل هذا الألم للطفل وللأسرة ولنا جميعا.
( ب ) صراع اجتماعي تمثل في رحلة العلاج اليومية حتى شفاء الطفل وكيف واجهت الأسرة ضغوطا وصراعات مستمرة مع كل من تعاملوا معه، وربما ظهر ذلك الصراع للطفل ذاته في الوجوه المتغيرة التي يراها يوميا وربما في تنمر بعض السفهاء عليه ورفضهم لوجوده ولحالته الصحية المتأخرة.
______________________________________________
( اللغة والتراكيب )
★★★★★★★
صيغت القصة بلغة سليمة وسهلة وبتراكيب واضحة وبليغة، فلم تلجأ القاصة لأسلوب فرد العضلات اللغوية _ كما يفعل بعض الكتاب _ وذلك حرصا منها على جمهورها العريض.
لا يوجد بالقصة أخطاء لغوية ( إملائية أو نحوية ) كما أن علامات الترقيم في مواضعها الصحيحة.
وأرفع القبعة تقديرا للقاصة التي حرصت على ضبط الكلمات إعرابيًا حتى يسهل على القارئ تمييزها بسهولة.
_____________________________________________
( السرد والوصف والحوار )
★★★★★★★★★★
★ السرد في القصة مشوق جدا تأرجح مع الصراع في القصة ما بين الهدوء و الذروة، وخدم ذلك براعة القاصة، وتمكنها من أدواتها الفنية واللغوية والأدبية.
★ أما الوصف فلم تبالغ فيه القاصة بل يكاد يكون منعدما، فلم تعطنا معلومات أو صفات حسية أو معنوية عن الطفل أو حتى أفراد أسرته، ولم تصف المشفى الذي لجأ إليه أول مرة أو حتى حجرة الطبيب الذي عالجه وشفاه بإرادة الله.
وربما يكون السبب في ذلك أن أحداث القصة لم تخدم القاصة، وربما يؤثر ذلك على بنية القصة وطريقة اختزالها.
★ أما الحوار فقد كان شحيحًا جدًا ، وهذا من جوانب القصور والضعف في القصة، واقتصر الحوار على كلمة ( ماما ) التي نطق بها الطفل بعد شفائه.
★ وربما قصدت القاصة اختزال الحوار واقتصاره على كلمة ( ماما ) لتختصر به كل أحداث القصة وتختزل به عشرات الحوارات التي تدور في فلك ذات الموضوع.
.
★ فهذه الكلمة المكونة من أربعة حروف هي رمز للحنان والعطف والأمومة، وتشير إلى الجلد والعناء والكفاح في تربية الأبناء.
هذه الكلمة هي بمثابة التاج فوق رأس الأمهات وهي الكلمة التي ترطب خشونة الحياة وقسوة الأيام، هي الكلمة التي تتحمل الأم من أجلها الصعاب وتحمل أثقالا تنوء عن حملها الجبال.
★ كلمة ( ماما ) هي أول كلمات نطق بها الطفل ، وكانت آخر كلمات طرقت سمع الأم
وهذه الكلمة بني على أساسها العنوان وأيضًا كانت هي الخاتمة التي أدت إلى وفاة الأم؛ فكانت الصدمة التي علمتنا ووعظتنا.
_______________________________________________
( الزمان والمكان )
★★★★★★★
★ الزمان : حصلت أحداث القصة في الزمن الماضي بدليل استخدام القاصة للفعل الماضي في سرد الأحداث، ولكن الإبداع يكمن في أن القاصة جعلتنا نتخيل أن القصة ستحدث اليوم أو غدا بتفاصيل مشابهة وشخوص متغيرة إذا استمر الإهمال وتمدد الفساد في ربوع المجتمع.
★ المكان : دارت أحداث القصة في عدة أماكن حيث تنوع المكان ما بين المنزل وبين المشفى والعيادات الطبية التي تناوبت الأسرة على زيارتها وأيضًا لا ننسى التنقل في الشوارع ووسائل المواصلات والمصالح الحكومية لإنهاء بعض المعاملات والتأشيرات الخاصة بالطفل، وتفهم تلك الأمور من خلال تسلسل أحداث القصة.
______________________________________________
( الشخوص )
★★★★★
★ برزت بالقصة شخصيات رئيسة وشخصيات فرعية؛ فالطفل وهو بطل قصتنا بكل ما عاناه من آلام وأوجاع وصراعات داخلية تجرع مرارتها في صمت.
★ والأم وهي شخصية محورية في أحداث القصة بما تحملته من ضغوط نفسية وعصبية وجسدية أودت بحياتها في نهاية المطاف.
★ ثم شخصيات فرعية ساهمت في تغيير مجرى أحداث القصة.مثل الطبيب الذي تسبب في إصابة الطفل وأيضًا الطبيب الماهر الذي استطاع بمشيئة الله ثم بصبره ومهارته أن يرسم الابتسامه مرة أخرى على شفاه الطفل.
________________________________________________
( التكثيف والرمزية )
★★★★★★★
★ أجادت القاصة في تكثيف أحداث القصة ببراعة ودون الإخلال بالمعنى أو ببنية وتركيب القصة.
★ أما الرمزية، ففي اعتقادي أن أسلوب القاصة وطريقة سردها لأحداث القصة يدل على أنها لا تنتمي لتلك المدرسة التي تطغى عليها الرمزية.
تمثلت الرمزية في تسليط الضوء على بعض الجوانب السلبية مثل الإهمال الطبي والفساد المجتمعي وأيضا بعض الأمراض العصرية كالتوحد وما يترتب عليه من نتائج سلبية.
________________________________________________
( الختام )
★★★★
وفي الختام أحيي القاصة التي أمتعتنا بهذه الوجبة الدسمة من الإبداع والابتكار، فقد أجادت في صياغة قصة متكاملة خلصنا منها بعدة دروس وعبر.
بعدسة الأديب /
هاني الشرقاوي
( ابن الكنانة )
...........