تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
الأديب الراقي
عبد الفتاح حموده ·
...........
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
.....
منذ أن توفي زوجي وقد زادت الأعباء المُلقاة على عاتقي، وقد أخذت من نضارة وجهي وقوام جسدي ما أخذته تدريجيًا، ومن يومها أصبحتُ بمثابة الأم والأب لأولادي، وقد أعلنتُ الرفض التام لكل من تقدّم للزواج مني، ولست أنا التي تتزوج بعد زوجها الذي أسعدني طوال حياتي وكان مثالًا للزوج الطيب الحريص على إسعاد زوجته والجدير بكل حب واحترام.
وقد ظننتُ أن الأعباء الثقيلة المُلقاة على عاتقي كفيلة بإخماد الجسد وإيقاف الفكر، ومواجهة الإحساس بالوحدة بعد انشغال الناس عنا بأمورهم لدرجة أنه لم يعد أي أحد يهتم بمتابعة أمورنا والسؤال عنا ولو هاتفيًا، ولهذا أحسست بأن الدنيا قد خلت تمامًا، والإحساس بالعزلة يتزايد يومًا بعد يوم، ولم أعد أحتمل الحياة بمفردي أبدًا.
ولعل هذا الإحساس مهّد لي أن أستقبل (طارق) الذي وجدته لا يختلف كثيرًا عن زوجي، وقد جذبني إليه رقة حديثه وأسلوبه الهادئ وسعة صدره للتفاهم والتوادّ، والحرص على إيضاح نواياه إذا غلبت على الطرف الآخر فهمها أو ظن بها غير القصد المنشود. ومن الغريب أن طارق هو الآخر يعاني نفس الإحساس رغم أنه متزوج، ولكن زوجته مشغولة عنه تمامًا بحضور مؤتمرات وندوات، وكلها تخص تنمية الأسرة وإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل التي تتعرض لها.
وقد قررنا أنا وطارق مواجهة أمورنا مواجهة جادة عاقلة دون إلحاق أي ضرر بزوجته، وأول ما نفعله أن يعيد عليها طارق تقصيرها في حقه ويمهلها مدة معينة لتؤكد حرصها على إسعاده وتوفير سبل الراحة له وتعويضه عما فات، وأن تكون له زوجة صالحة وليست زوجة على الورق دون أدنى اهتمام، وأن تلتزم بما تقدمه في ندواتها ومؤتمراتها في هذا الأمر.
والخطوة الثانية أنه لا مفر من زواجنا على أن يخبر زوجته تدريجيًا بذلك طالما هي غير قادرة على القيام بدورها كزوجة.
ولم يفُتني أن أُعطي الفرصة لطارق ليتقرب إلى أولادي حتى يتقبلوا أمر وجوده في حياتنا فيما بعد، وكنت على ثقة تامة أنه سوف يفلح في مهمته.
هكذا رتبنا أمورنا بعقلية واعية حريصة على الحفاظ على علاقتنا، وإن كان الذي يفكر بعقله يظن أن الأمور باتت كلها بين يديه.
وظننت أنا وطارق أن الأمور قد آلت إلينا، وأنه لم يبقَ إلا بضعة خطوات تبدأ حياتنا بعدها.
وذات ليلة عدتُ أنا وطارق إلى البيت تلبيةً لدعوة أولادي، ووجدناهم قد أعدّوا وجبة عشاء وإن كانت متواضعة على قدر إمكاناتهم، إلا أنها تعني الكثير. وكنت قد أحسست أن هناك ما يدبّره أولادي وراء هذه الضيافة.
وبعد انتهاء الضيافة استأذن ابني الأكبر أسامة الانفراد بي لوقت قليل، وتابعته شقيقته ناهد ثم مجدي، وهنا زادت حيرتي وشغفي لمعرفة ماذا وراء هذا كله. وكانت المفاجأة… وبدأ أسامة يتحدث في هدوء تام:
يا ماما… نحن فكرنا كثيرًا في أمر زواجك من الأستاذ طارق، ووجدنا من الصعب علينا أن نتقبل رجلًا غريبًا مكان أبي، وقد أعددنا هذا الحفل للترحيب بالأستاذ طارق كصديق، ولكن ليس كأبّ بديل لنا…
جلست في غاية الصمت، وأذهلني الأمر كله، وطال بي الوقت في دهشتي وذهولي، ونسيت أن طارق جالس في الخارج، وخرجت مسرعة إليه فوجدته قد انصرف..!
.........
مع تحياتي /
عبد الفتاح حموده

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق