قصة قصيرة
الحلم ... مازال ممكناً
بقلم الأديب الراقي
د. علاء محمود صقر بده
Sakr Bedda Alaa ·
........
الحلم ... مازال ممكناً
.........
كان يكتبها دائماً غير مكتملة على حافة الورقة بخط باهت: (حلمي أن أكون...)، كأنه يخشى أن يفضح نفسه. كان بداخله طفلٌ ربيعيٌّ دائم الخضرة، ترعى في وجدانه الأحلام، لكن الجرأة كانت غائبة عنه.
وحين شبّ عن الطوق قليلًا واندفع في معمعة الحياة، لم يستطع أن يختار طريق حلمه؛ إذ كان تيارٌ جارفٌ يدفعه بعيدًا عنه، ويجذبه بقوة نحو طريقٍ آخر ينتهي به طبيبًا.
كانت الرغبة العارمة لأسرته في أن يصبح طبيبًا، والذهن الجمعي الذي يصوّر المتفوق طبيبًا لا غير، عقبتين كؤودًا وقفتا في وجه قراره.
تاه فكره متسائلًا:
-- هل أستجيب لرغبة أسرتى ومجتمعى التي لا أقوى على تجاهلها؟
أم أسبح ضد التيار؟
المجتمع كان يتباهى بدخول كليات القمة، وعلى رأسها كلية الطب.
مرّ في ذهنه مشهد أحد أصدقائه المتفوقين وقد ترك دراسته وقفز يسبح ضد التيار طلبًا للثراء السريع... فتساءل: أأفعل مثله؟
لكنّه لم يكن يملك شجاعة القفز ولا قوة السباحة عكس التيار.
لم يكن واثقًا من ذاته، خشي أن يخسر كل شيء؛ أن يفقد دعم أسرته، وفرصة دخول كلية الطب، فيخسر مستقبله المهني وحلمه بحياة مستقرة. والأهم... أن يفقد تلك النظرة المجتمعية التي تحيط الطبيب بهالة من الاحترام والتقدير.
استسلم للتيار، ودخل كلية الطب، فاجتذبته الدوامة؛ دوامة الدراسة والاستذكار.
كانت دراسة شاقة جعلته يهمل ممارسة هوايته، حتى علا الصدأ على موهبته وتراكم عليها الغبار. ومع كل نجاح أكاديمي كانت طبقة غبارٍ جديدة تخفي بذرة الحلم.
أهمل موهبته طويلًا، حتى صار وجدانه أرضًا جرداء هجَرَها المطر، بلا شجرةٍ ولا ظلٍّ في مواسم الجفاف.
طُمست الرقة واللين والشاعرية، حتى نسي أنه كان يومًا طفلًا يحلم ويركض خلف الفراشات معتقدًا أن بإمكانه أن يصبح ضوءًا. لم تكن المشكلة في الحلم ذاته، بل في تلك الهوّة الصامتة بين ما هو عليه... وما يريد أن يكون.
والآن، بعد أن أنهى دراسته وأصبح طبيبًا وأرضى أهله، ونال النظرة البراقة التي يمنحها المجتمع للأطباء، بدأ ينتابه الحنين نحو كتبه الملقاة على هامش الأيام.
أسرع إليها كمن يستعيد حكاية عشق قديم، يقلب صفحاتها بنهم العطشان وقد وجد الماء.
وقع بين يديه بعض محاولاته الكتابية؛ شعر بأن حلمه أن يكون أديبًا لم يمت كلّه، وأدرك أن الهوّة بين ما يحلم به وما يضطرب في وجدانه ليست واسعة كما ظن.
شعر أن الإرادة القوية تختصر المسافات، وأن بإمكانه أن يحوّل أرضه القاحلة إلى جنة غناء مليئة بالخضرة والزهور والماء.
وبعد شهور من القراءة الدؤوبة، وحضور الندوات، ومتابعة المنتديات الأدبية، بدأ يشعر بأن ورقة خضراء خجولة بدأت تشق صمت تربة الوجدان، وأن البذور التي غرسها واعتنى بها بدأت تنبت وتؤتي ثمارها...
بدأ الصوت الذي ظنّه قد مات يعود. كان خافتًا أول الأمر، ثم أخذ يعلو شيئًا فشيئًا؛ كانت البذور المنثورة في داخله تناديه:
"ازرعني من جديد؛ فما زال فيك فراغٌ يتّسع للحلم."
لم يكن متأكدًا إن كان قادرًا على الزرع ثانية، لكن شغفًا في داخله بدأ يتحرّك. كانت نفسه ترتجف محاولةً أن تغرس بذرة في تربة تتنازعها الإرادة والخوف.
جلس على مكتبه، يملأه الأمل، وتحدوه الثقة. كان عازمًا على أن يطرق أبواب حلمه. أخذ قلمه يعانق الأفكار ثم يزفّها إلى السطور في جو من البهجة والارتياح، وشعر بأن يده تمسك القلم كما لو أنها تستعيد نبضًا ضائعًا.
وعلى إيقاع ضربات قلبه، تراقص قلمه فوق السطور، وأخذ يسطر حكاية أديب عادت إليه نفسه التائهة، وكان أول الغيث تلك الكلمات :
.........
قصة قصيرة
الحلم ... مازال ممكناً
بقلم د. علاء محمود صقر بده
مصر – ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق