لحظة غضب
بقلم
Ahmed Ali Sedki
لحظة غضب
استدعيا لمجلس تأديبي بعد أن تراشقا بألسنتهم في ساحة المدرسة أمام التلاميذ، تراشقا أدى بهما الى تشابك بالأيادي خلصهما منه أساتذة آخرون وبعض تلامذتهم. قال لهما مدير المدرسة:
- يا أستاذ التاريخ أنسيت ما معنى هذا المصطلح. أنسيت أن التاريخ قد اطلعك على سير عقلاء الامم و مخابيلهم وأنك تعلمت منه ما به تقدم أو تتأخر البشر. فكيف تتورط في هذه المنقصة وتتعارك مع أستاذ أكبر منك سنا وهو من خيرة الأساتذة عندنا. وأنت يا أستاذ الجغرافيا يا كبيرنا! ألم تكن أنت الذي تقول لنا أن الجغرافيا، كما تجعلنا نميز بين حدود ارض وأرض، فهي ايضا تجعلنا نتبين حدود بقعة تصرفاتنا حتى لا نتجاوز حدودنا ونقتحم فضاء تصرف من يحاورنا؟ لقد أدهشني سلوككما و وقوعكما في تصرف لم نعهده في مدرستنا ولا مع أساتذتنا القدماء. تصرفكما خيب ظني فيكما وقلل من احترام جل التلاميذ لشخصكما. أقول لكم لا تلوموني ولوموا أنفسكم، فقد نظر المجلس في أمركم و قرر ما يلي: انتقالك استاذ التاريخ الى مدرسة أخرى بقرية بالجنوب وقرر عزلك أستاذ الجغرافيا عن تلقين الدروس ومباشرتك لأعمال إدارية.
تناول كل منهما ورقة مهمته الجديدة وخرجا متطأطئين الرأس خجلا مما صدر منهما. في اليوم الثاني غادر أستاذ التاريخ مدينته ولم يعد يعرف عنه أي شيء... ومارس استاذ الجغرافيا عمله الجديد بأسف وكراهية...
تبعا لما حدث، وقع واقع في دار استاذ الجغرافيا لم يكن في الحسبان إذ حدثت خصومة بين الاب وابنه كان أثرها وخيما على سير أمور البيت، إذ اهتاج ابن الاستاذ على أبيه وأمه لما جرى. وحملهم مسؤولية ما سيقع.
كان الشاب يحب ابنة أستاذ التاريخ وتحبه. وبسبب هذه الخصومة و ما نتج عنها من تغيير. رحلت البنت مع والديها قلقة فما ودعت حبيبها ولا علم منها أين هم ذاهبون. لم يعرف الى أي مكان ساروا فغضب غضبا على أبيه لم يغضبه أبدا على أحد من قبل. كان الشاب قد احب الفتاة وحسب حسابه للقران بها، وجاءت هذه الفاجعة التي سببها أبوه فعكرت جو حبه و ها هي تسير باموره عكس اتجاه مسيرة حياته.
كان هذا الفتى يحب هذه الفتاة لجمالها و لقوة شخصها ولذكائها فقد غزت قلبه وأسرت عقله وقيدت كل أفكاره. كان قد عقد معها أن لا يتزوج غيرها واتفقا على أن يخبرا أبويهما بالأمر ويقرران بصحبتهما وقت قرانهما... لقد أحبها حبا جما وأحبته بالمثل. لكن ما وقع من الأبوين اقلق المحبين وعجل بالانتقال فما ترك لهما فرصة لتبرير ما حدث ولا هنيهة للنظر فيما يجب فعله... لام الابن أباه على ما سببه له من حرمان من حبيبته فتخاصم معه خاصما وصل ذروته حيث قرار الشاب هجر بيت الأبوية والذهاب الى حيث لن يدري أحد أين سار...
جمع ما جمع من بعض لوازمه وخرج من غير اخبار والديه. هام على وجهه يبحث عن حبيبته.. تأسف الأب على دخوله في هذا التشابك المشين وهذا التراشق بالألسنة الذي كان من السهل تجنبه لاجتناب ما وقع. كم تمنى الأستاذ لو كبح عناد نفسه في تلك اللحظة و تجنب ارتكاب هذا الخطأ الفادح لما ضيع ابنه وصديقه ولما نغص أيامه مع زوجته...
مارس عمله في الادارة لكن لم ينس حلاوة التدريس. اشتاق لتلاميذه ولسبورته ولطبشوره. طلب من الادارة ان تعفو وتصفح و ترجعه لما كان له يحيا. لم تلب رغبتهف قرر أخذ تقاعد نسبي ثم غادر مدينته الى جهة لم يعرف عنه أحد أين اتجه...
مرت أيام وشهور وتبعتها أعوم. ايام لم تكن سهلة الاحتمال على استاذ الجغرافيا الذي يلوم نفسه كل اللوم في كل ما حصل. كان ألمه كبير على مغادرة التدريس وأكبر منه ألمه على زوجته التي أصبحت تبكي ابنها ليل نهار. زوجته التي لم يهنأ لها بال على فلدة كبدها الذي هجرها ولم تعد تعرف عنه شيئا. غادرت المدينة مع زوجها وهي تتأسف على ترك بيت انجبت فيه هذا لالبن الوحيد وها هي تتركه بلا رجعة.
وهي تغادر بيتها كانت لا تعرف أين هي ذاهبة ولو كانت تعرف لتركت عنوانها لابنها عند احد الجيران فان عاد سأل عنهما و وعرف فانضم اليهما لكن... كابدت المسكينة وتحملت ولم يهنأ لها بال حتى فارقت الحياة... ضاعت الزوجة وضاع الابن و ضاع الصديق من جراء عدم كبح ارادة نفس أمارة بالسوء حضرت هنيهة وتغلبت على فطنة استاذين فحطمت أسرة بكاملها وفرقت صداقة وكسرت وثاق أبوة وشتت لمة عشرة طويلة، بلا هوادة...
بقى استاذنا الفاضل لوحده بمنزله الجديد فقرر أن يغادره ويخرج هائما على وجه الأرض، رحالة ولهانا هدفه إيجاد صديقه أستاذ التاريخ. أما ابنه فلم يعد يفكر فيه فقد عده من الأموات. وعد الأستاذ نفسه بأن يصول ويجول البلد ولن يبرح عن هذا حتى يجد صديقه أو يأتي الله بأمره أو تأتيه المنية... قرر أن يبحث عن عنوان صديقه في كل مدارس البلد حتى يجده ليستسمحه على غلطه. وعد على نفسه هذا وأعده دينا عليه. استحلف نفسه أن لن يتراجع عن وعده، ولو لاقى من المِحن والمصائِب في سبيل العثور عليه، ما لاقى، يجده أو يلقى حتفه...
سافر الى قرى الجنوب كما سمع المدير يقول. وفي أول قرية، بها مدرستين، سأل عن صديقه بالمدرسة الأولى فأخبروه بأنه لم يكن عندهم مدرس بالاسم الذي يقول، ولكنه يمكن أن يكون في المدرسة الثانية. اتجه اليها فأخبروه أنه أخذ تقاعده وغادر هذه المدرسة منذ أعوام.. أمدوه بعنوانه القديم المسجل عندهم حينما كان يدرس بالمدرسة. أخذه وخرج يبحث عنه وكان يعرف أنه سيبحث عن ابرة وسط قش ثبن ولكن سيبحث.. بعد أيام وليالي عثر على العنوان، لكن اخبره بعضهم أن صاحب المنزل قد سافر لمدة ولم يعرف هل سيرجع أم لا... اكترى مرأبا لينام فيه حتى يظهر صاحبه أو يغير اتجاهه و يتابع البحث عنه في أماكن أخرى. في اليوم الثاني وهو نائم بذلك المرأب أيقظته من نومه دقات متتابعة على الباب. نهض خائفا. فتح الباب. فإذا بأستاذ التاريخ يعانقه عناقا شديدا وقد خنقته الدموع. تعانقا من دون أن يتكلما، ثم دخلا الى المرأب ليكملا عناقهما. أخبر كل واحد منهما الآخر بما حصل. وتساءلا كيف حصل. ولاما أنفسهما عن غباء حصل من استاذين قد يحصل لرجلين عاديين ولا يلاما عليه. كانا يتحدثان في نفس الوقت وكل منهما يتسابق مع الآخر ليقول أنه هو السبب فيما وقع. قال استاذ التاريخ لصديقه:
- كنت دائما اتمنى لقاءك وكنت احس أننا لا بد سنلتقي ولذلك حين اخبرني جاري بأن رجلا يبحث عني عرفت أنه أنت فتعجلت لزيارتك خوفا من أن تيأس من رجوعي وتسافر. كان قلبي يخبرني بأن من يبحث عني هو أنت أستاذ الجغرافيا صديقي.
أخذ استاذ التاريخ صديقه الى داره وقد فرح به فرحا لم يضارعه إلا فرح هذا الآخر الذي عثر على صديقه وقد أساءه كثيرا ما جره عليه من مصائب. تجادبا أطراف الحديث. وأخبر استاذ الجغرافيا صديقه بأن زوجته قد ماتت من جراء فقدان ابنها وأن ابنه قد هجره منذ سنين وهو يحسبه اليوم من الاموات. وهما في حديثهما إذا بربة البيت تدخل ومعها طفل صغير في سن الرابعة من عمره. قبله استاذ الجغرافيا وحضنه اليه وهو يتمعن في وجهه ويقول:
- والله هكذا كان ابني في صغره. هذا الطفل ارجعني سنين الى الوراء لأرى فيه ابني. تعجب لهذا الشبه العجيب. فقال له صديقه:
- الاطفال الصغار يشبهون كل الناس ان امعنت اليهم النظر. قال:
- لا. فهذا شبه غير ذاك الذي تقول. هذا شبه تام. رد عليه قائلا:
- غدا نذهب غدا عند أبيه لتراه وتمعن اليه النظر فهو يشبهه.
في الغد أخذا الطفل وذهبا الى بيت أبيه. قرع أستاذ التاريخ جرس بيت صهره. سمعا صوتا رد عليهم:
- من الذي يدق؟ انتظر قليلا حتى ارتدي حذائي. قال استاذ الجغرافيا:
- والله كأنه صوت ابني. خرج صاحب البيت فأغمي على استاذ الجغرافي لما رأى الشاب الذي فتح الباب إذ كان فعلا ابنه...
كان لقاء غير منتظر شفعه عناق أطرت فضاءه دموع وآهات و حسرات ومعها ابتسامات فرح ودقات قلوب قد وجدت ما ضيعته بعد أن كانت قد يئست من العثور عليه...
احمد علي صدقي/ المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق