.... قصة قصيرة
الست أصيلة
للأديب الراقي
رضا الحسيني
***
كانت الست أصيلة أنشط النساء في الحياة التي حولها ، أول من تستيقظ صباحا ، تتوضأ وتصلي الفجر ، ربما لم تهمل فجرا ذات يوم منذ كانت في بيت أبيها ، ولم تفلت منها صلاة ، تتحرك بأقل صوت ممكن ، تجلس في ركنها المعتاد تذكر الله ، حين يستيقظ من بالبيت تكون هي قد انتهت من كل أعمال البيت ، نظافة وغسيل وطهي ، وقد أصبح كل ما يلزم أولادها جاهزا ، ونظافتها كانت تمتد حتى سلم البناية التي تسكنها وربما وصلت للشارع الذي فيه بنايتها ، هي بذلك أصبحت أشهر نساء الحي ، فالكل يعرفها ، رائحة طعامها تجذب البعيد والقريب ، ولا يفوتها أن تكون ابتسامتها من ملامحها طيلة الوقت ، ورغم أنها لم تُكمل تعليمها بعد الابتدائية إلا أنها كانت تجيد التحدث وتقرأ أي شيء بطلاقة مع بعض العبارات الإنجليزية والفرنسية ، كل من مر بحياتها أحبها ، وتركت بداخله أشياءً جميلة منها ، جميلة الشكل والروح ، كلما زارت بيتا من بيوت عائلتها تمسَّك أهل البيت بأن تبيت لديهم فلا يتركوها حتى يتشبعوا من جمال روحها ، فصار لها بكل بيت زارته الكثير من الذكريات ، وهي الوحيدة التي دخلت كل بيوت أهلها وأهل زوجها ، وهي أشطر من اشتغلت بالكوريشيه منذ خمسينيات القرن الماضي ، عاشقة من عشاق الست أم كلثوم وصوت الشيخ الطبلاوي ، لم تمكث بأولادها يوم جمعة في بيتها ، دائما تأخذهم لإحدى حدائق القاهرة ، وكثيرا ما رافقت أسرة أختها الأصغر في كثير من المتنزهات ، صاحبة أجمل فنجان قهوة مظبوطة ساعة العصاري ، لم يصدر عنها أي شكوى ذات يوم مما تبذله من جهد رغم أنها تربي خمسة من الأطفال ، لقدميها في كل شوارع العاصمة ذكرى ، من هنا تشتري الخيط ، ومن هنا تأتي بزيت الشعر ، ومن هنا تأتي بإبرة الكوريشيه ، وهنا تطحن الكفتة ، وهنا لها صديقة ، وهنا لها قريبة ، أشهر من بأهلها وأهل زوجها بطيب أخلاقها وابتسامتها وحكاياتها ونوادرها
ذات يوم مرضت بعدما اقتربت من الثمانين من عمرها ، فكانت أمراض الشيخوخة ضيوفها باستمرار ، و بدأت تنسى الكثير من الأشياء حتى أسماء أولادها ، وجاءت تزورها أقرب البنات لقلبها ، والتي كانت تلازمها في كل مشاويرها وأحداثها في آخر عشرين عام ، ظلت تحكي معها أكثر من ساعة ثم فاجأتها :
_ انتِ مين ؟ أنا أول مرة بشوفك
_ يا أبلة أصيلة أنا أُلفت حبيبتك ، معقول تنسيني !
_ وأعرفك منين ؟ هو أنا كل شوية حد يجي يقول لي بيعرفني وأعرفه
_ أنا مش أي حد يا أبلة أصيلة ، أنا مامتي ثُريا بنت خالك وصاحبتك اللي قاعدة جمبي
_ أنا عارفة ثُريا أه طبعا ، بس مش بعرفك
- فاكرة يا أبلة أصيلة لما دخلنا القسم في العتبة والظابط قالنا ( إف ، إيه الريحة النتنة دي ؟!)
- أه فاكرة ، ودي حاجة تتنسي ، كنا اشترينا فسيخ من واحد و لقيناه في البيت ريحته وحشة أوي ، ولما رجعنا للبياع رفض ياخده مننا وقال مش من عنده ورحنا القسم نشتكيه والظابط أول ما دخلنا قال ( إف ) قلناله أهو إحنا جايين هنا عشان الإف دي
- أهو أنا اللي كنت معاكي يومها
- بس أنا مش فاكراكِ خالص ، أول مرة بشوفك
وعبثا حاولت أُلفت لأكثر من ساعة أن تجعل الست أصيلة تتذكرها ، رغم العديد من الأحداث التي ذكرتها وجمعت بينهما
وذات مساء بعد وفاة زوجها بسنوات رقدت وحولها أولادها لعدة ساعات ، ظلت خلالها روحها تحُلق في المكان بهدوء كما كانت تتحرك طيلة عمرها بهدوء حتى سكت كل شيء !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق