القصة القصيرة
عدو غادر
الأديبة الراقية
وفاء
صابر
( بيبه بيبو )
......مصر ......
.......
عدو غادر
..........
دلال سيدة تخطّت الخمسين من عمرها، تزوّجت في بداية عقدها الثاني من محمد، موظف بإحدى شركات المقاولات الكبرى، وأنجبت منه ثلاثة أبناء: ولد وبنتان، هم بالترتيب: مؤمن، ميار، ومنى.
كانت لهم نعم الأم والأب، بسبب ظروف عمل والدهم التي كانت تتطلب السفر كثيرًا.
تخرّج أولادها جميعًا في الجامعة، وبدأت رحلة تزويج الأبناء. وفي أثناء تجهيزها لزفاف ابنتها الأولى، سقطت مغشيًا عليها، مما أثار الخوف والهلع بين من حولها. سارع مؤمن بطلب الإسعاف، التي وصلت بعد فترة قصيرة، وأوصت بضرورة نقلها إلى أقرب مستشفى. تحرّك الجميع في حالة من الفزع، متمنّين أن يكون الأمر مجرد إرهاق.
وبعد إجراء بعض الفحوصات الطبية، خرج عليهم الطبيب ليخبرهم بأن الحالة حرجة، وتحتاج إلى مزيد من الأشعة التشخيصية للبت في الأمر. ذهب مؤمن بمفرده للاستفسار عن الحالة، فصُعق بتشخيص الأطباء: سرطان في القولون.
خرج مؤمن وإخوته ينظرون إلى وجهه، والدموع محبوسة بين جفنيه، لكنه أخبرهم أن الحالة مجرد التهاب في القولون، وأنها مرهَقة وتحتاج إلى البقاء ليومين تحت الملاحظة الطبية.
دخل مؤمن إلى والدته دلال وهو يبتسم ويداعبها ويختلق النكات لإضحاكها. وفي اليوم التالي، أكدت جميع الفحوصات إصابتها بسرطان القولون.
انهارت ابنتاها، وظل الأخ ممسكًا بهما، يحتضنهما ويحثهما على التماسك. ووصل الأب في تلك اللحظة، بعد أن تلقّى اتصالًا من مؤمن يخبره بما حدث.
طلب الأب رؤيتها، وبمجرد دخوله حجرتها، انهارت دلال وهي تخبره أنها تشعر أن الأمر خطير، وترجوه أن يصارحها بحقيقة مرضها. أجابها بتماسك شديد:
– حبيبتي، لو كان الأمر خطيرًا لأخبرني الأطباء، أو طلب مني الأولاد الحضور، ولكنني كنت في مأمورية عمل، وعرفت بوجودكم في المستشفى من الجيران.
أخذ يقبّل يدها ويقول:
– كم مرة قلت لكِ أن تهوني على نفسك في تجهيزات عروستنا الجميلة؟ كل ما تعانينه مجرد إجهاد.
وهنا استأذن أحد الأطباء بالدخول لمتابعة الحالة، وبدأ يُمهّد لدلال سماع الخبر، لكنها فاجأته قائلة:
أعلم، سيدي، بإصابتي بالسرطان، وأنا بإذن الله جاهزة للخضوع لكورسات العلاج . ولكن، هل سيسعفني الوقت لاستكمال جهاز عروستي الأولى؟
أجابها الطبيب بابتسامة عريضة:
– أجل يا سيدتي، وستجهزين عروستك الثانية أيضًا، وستختارين زوجة لابنك... لكن هل سأكون ضمن قائمة المدعوين؟
ابتسمت دلال، ووعدت الطبيب أن يكون أول المدعوين.
خرج الطبيب مندهشًا من صلابة تلك الشخصية، يدعو الله أن يشفيها.
وبدأت رحلة علاج مؤلمة، خضعت فيها لعملية جراحية، لكنها كانت تحتسب وتصبر، وتحفّز نفسها على المقاومة من أجل زهور بستانها. أصبحت دلال حديث الجميع من أطباء ومرضى، الكل يتحدث عن قوة إيمانها التي منحتها صلابة، تحطّمت عليها صخرة ألم العلاج الكيماوي. ابتسامتها لم تفارق وجهها، وكانت تساعد من حولها، وتواسي من انضم إلى قائمة المرضى، وتخفف عنهم صدمة الخبر المفزع.
وبعد فترة من الزمن، بدأت دلال تتماثل للشفاء، وواصلت علاجها من وقت لآخر، وعاودت تجهيزات زفاف ابنتها.
وها هو يوم الزفاف، ودلال تستقبل المدعوين، ومن بينهم ذاك الطبيب الذي وعدته أن يكون أول الحاضرين.
ومرت الحياة على دلال بين الشفاء وعودة المرض، حتى زوّجت جميع أولادها، ورأت أحفادها. وبعد رحلة معاناة مع ذلك المرض، الذي كان كلما عاد، هاجمها بشراسة، كانت تحاربه ببسالة، إلى أن هزمها أخيرًا... ولكن بعد أن هزمته هي مرات عديدة.
لفظت أنفاسها الأخيرة وهي تحمد الله، شاكرة أن وهبها هذا البلاء لتنال الشهادة على سريرها الأبيض، وظلت تردّد الشهادة حتى صمت صوتها، وسكن جسدها إلى الأبد.
لكنها تركت خلفها قصة رائعة عن المقاومة والمقاتلة لذاك العدو الغادر
..........
وفاء صابر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق