(رسائل الزمن الضائع)
بقلم الأديب
ربيع دهام
...............
في ساعات الليلِ الكئيبة، حيث لا صديقٌ ولا حبيبةْ.
ولا قمرٌ يطرق كالثلجِ على شبّاكي.
أزحف أنا إلى زنزانتي السريريّة. أطفو على فراشِ العزلةِ.
أقوقع نفسي كالمحارِ بين براثنها. أحشرها بين قضبان اللحاف والفراشِ، وأركن رأسي على فتحة الوسادة.
أسدل الستائر على ألمي، وأغفو.
وأحلم... وأحلم... وأحلم.
أحلم بدنيا يأتي فيها الديك ليصبّحني، لا زمامير السيارات والشاحنات والقاطرات.
أحلم بدنيا أركضُ فيها بشوقٍ إلى مركز البريدِ.
أسألهم عن رسالةٍ لطالما انتظرتها.
وأرى الرسالة كعروس البحر تأتيني من خلف الأمواج.
أغازلها بعينيّ وأدمع.
وبأصابعَ مرتجفةٍ أفتحها وأقرأ.
رسالةٌ من حبيبٍ أقبّل حروفها بشغفٍ. أشمّها.
أحضنها بين ضلوعي وأضحك.
وأضحك. وأضحك.
رائحة أصابعه فيها. طلّته فيها. ضحكته. عبسته. صوته. لهفته.
عيناه ترمقني من بين حروفها.
حتى بصمة أصبعه موجودة على الورقة. وأتوه في البصمةِ وأغرق.
أراقب خطوطها.
أدرس تعرّجاتها. أشدو بسحِرها. غموضها.
أفك طلاسمها.
وأعود وأضمّها إلى صدري. وأضحك.
لا... بل وأبكي.
لا... بل وأضحك. ثم أبكي.
رسالةٌ بنكهة حبٍ لا تشبه آلاف الرسائل الإلكترونية المكدّسة على جهاز الخلوي، ولا طعم لها ولا لون.
يدق باب قلبي.
أصرخ : "من؟".
ويجيبني الصوت الحنون :
" افتح أنا جدّك".
ويدخل جدّي إلى النبضِ ويحكي.
يجلس على كرسي الصدر.
يفلش ورقة السجائر.
يضع عليها التبغ. يكوّرها. ثم حنين الماضي يشعلها وينفثُ.
وينفث...وينفث...
ويطير الدخان أمام ناظري، ويتناثر في المكان.
أحدّق في الدخان ، أرمقه.
أحاول منعه من التسلل عبر الفتحات مخافة أن يخرج ويختفي.
ألتقطه.
يفر من بين أصابعي. أمتطيه.
يتحول فجأة إلى فقاعات بالون.
أراني ألعب على الفقّاعاتِ وأشدو. وأطير من فقّاعة إلى أخرى وأصرخ.
وأسقط على طشت ماءٍ صغيرٍ.
وقبل أن أرتطم بحديده، تمسك بي أصابع أمي.
تضمني.
تضع الصابون على رأسي المحتج. تفركه.
وقبل أن أهمّ أبكي أسمع صوتها الحنون يداعبني.
يحدّثني. يطمئنني. وأضحك لكلامها الجميل. وأبكي.
وأضحك وأبكي.
وأضحك وأبكي.
وأستفيق من حلمي. أجلس على فراشِ الوحدة ضائعٌ بين موتٍ وحياة.
تُرى أين أنا الآن؟
ويرن الهاتف فأنزعج .
ويزعق جهاز التلفاز.
فأخاف.
ويصرخ المنبّه فأنتصب. وتسعل الغسالة فأصاب بضيق النفس.
وتولول الخلاطة فألطم.
ويرنّ الجرس.
أزحف إلى الباب. أفتحه.
يحدّثني شخصٌ لا أراه.
يأتي شخصٌ آخر. يحدّثني، وأيضاً لا أراه.
أخرج إلى الدار لأبحث عن مصدر الصوتين.
وما إن تطأ قدماي أسفلت الطريق، يهرسني كميون اسمه "حضارة"،
ويكمل الكميون طريقه، دون أن يتوقّف.
أسقط على الأرضِ. أرى دمي يسيل. ألعقه كي لا يراني أحدٌ ويشفق عليّ وبكي.
لكن لا أحد يشفق عليّ ويبكي.
تتراكض وسائل الإعلام إلى الكميون وتسأله:
" هل ضايقك قاطعِ الطريق هذا؟".
ويدمع الكميون ويصرخ :
" أجل.
إنه إرهابي!".
............
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق