قصة قصيرة
رؤية أمس الضبابية
بقلم الأديبة الراقية
Walaa Qwasmeh
.............
رؤية أمس الضبابية
لأول مرة في حياتي أحزنُ من منظرِ غيمةٍ عابرة، ليستْ كغيرها؛ فقد اتخذتْ شكلاً بشرياً اغرورق في دموعه.
لم أُطِلْ الوقوف بالقرب من نافذة المشفى المستطيلة، رغم تناسق ألوان السهول ما بين الأصفر والأخضر المريح للنظر والأعصاب، وسحر الجبال الممتدة كثيفة الأشجار، إلا أنَّ قدماي المرتبكة المتعبة أمرتني بالجلوس حالاً.
إلتهمَ الخوفُ أعصابي مع دوران تلك الساعة المثبتة على الجدار القرميدي، وقدوم الطبيبة بوقت متأخر، فأنا لم أجرب هذا النوع من العلاج الطبيعي لآلام العضلات من قبل، ولا أعرف عنه شيئاً،
تعبتُ وانتظرتُ كثيراً، حتى تمنيتُ لو أني لم أخلق على هذه الحياة، أو كنتُ مجرد طائر طليق.
بينما الجميع في قاعة الانتظار مشغولين بصوت طقطقة أصابعي، وسيجارة أحدهم الخانقة.
دخلت فتاة تقاربني في العمر بخطوات واهنة، ألقَتْ السلام بصوت خافت، جلستْ بجانبي جِلسة خاطئة، مما زاد من ألمها، تدعى" سلوى"، بعد دقائق بادرتْ هي وسألتْ بخجل بصوت مبحوح:
_ لماذا كل هذا التوتر؟!! هل مرضك خطير؟
أجبتُها بفكر مشوش:
أُعاني منذ فترة طويلة من شد عضلي أنهكني، واليوم أولى الجلسات الحرارية، في الحقيقة سمعتُ أنها تُضاعِفُ الألم ثم يتلاشى ويزول، ثم تابعتُ لكي أخفف عن نفسي:
أنا واثقة أنه من بعد هذا اليوم سَيقلُّ القلق تدريجياً؛ لِأَنَّ تِكرار المُثير يُقلل الاستجابة.
سلوى:
كم أتمنى لو همومي اقتصرتْ عند هذا الحد، ولكن أنا التي تتقاذفني المصائب والأمراض تباعاً، احتلتْ أوقاتي، نزعتْ أفراحي، فلا متسع لدي لا للشهيق ولا للزفير، رغم أوجاع المعدة والديسك وصعوبة المشي، حملتُ نفسي بتثاقل وجئت.
أنا:
لماذا لم يأتِ معك أحد؟ أين أسرتك؟
سلوى وقد ابتسمتْ بمرارة، بفم يكاد يخلو من الأسنان، وقد تَغَضَّنَ وجهها:
_ أنا يتيمة الأبوين، فقدتُهم هم وإخوتي في حادث سير كنتُ انا الناجية الوحيدة منه، زوجي مريض مشلول لا يعمل، عندي طفل واحد، مبتلى بلحمية زائدة في الحنجرة، ولا يستطيع النوم إلا في وضعية الجلوس فقط.
أطبقتْ رموشها، رجفتْ جفونها، ران صمت عميم،
استأنفتْ بوحها الكئيب بعد مرور ربع ساعة تقريباً بصوت ملتاع:
_ وعمليته الجراحية لا تتم إلا بعمر معين، ومن المستحيل إجراؤها حالياً.
وأردفَتْ بملامح باهتة:
_ انتظارُكِ لساعات، أما نحن فرهن انقضاء السنوات.
تَيَبَّسَ الكلامُ وعلق بداخلي حتى اختنقتُ، كادتْ عروقي تنفجر من تخيل فظاعة ما يكابده ذلك الطفل لولا تَدَخُّل صوت الطبيبة الذي جاء في الوقت المناسب:
_ ليلى جاء دورك يا أديبتنا الرائعة
أنا وقد نسيتُ فمي فاغراً من هول المفاجأة:
_ هل تعرفينني من قبل؟!!!
الطبيبة بضحكة ملأت وجهها:
_ نعم، أنتِ غنية عن التعريف، يومياً أقرأ كلماتك على مواقع التواصل الاجتماعي وكم دعوتُ الله أن ألتقي بكِ و ...
قبل أن تُكمِلَ حديثها، تَغيَّر لونها، جَذَبَتْها الأرضُ نحوها، مددتُ يدي على الفور لها وساعدتُها على الوقوف، وأحضرتُ لها الماء.
سألتُها وقد تَشَوَّشَتْ أفكاري:
_ ما بكِ؟ ماذا حدث لكِ؟
أجابتْ بامتعاض:
_ أنا عبارة عن قائمة طويلة من الأمراض التي لا حصر لها، أُعالجُ الناس، ولا وقت لمعالجة نفسي.
بدأتْ بخطوات العلاج وهي تذكر لي ما قرأتْهُ من نصوصي الأدبية المتواضعة ببطء؛ كي لا تنسى شيئاً منها، وبعد تأكدها أن الأمور تسير على ما يرام، ومن عدم شعوري بالألم، تابعتْ بتلعثم واضح:
_ أعتقد أن هذه المشكلة الصحية الوحيدة التي تعاني منها، ولكن أنا ماذا أقول؟ ومن أين أبدأ؟
صدقاً .. أحتاج صيدلية بأكملها لأتعافى.
هربَتْ من أفكارها بنظرة إلى هاتفها، طال وقت الوجوم، ارتابني ملل رهيب، أزال ذلك زيارة طبيبة من قسم آخر بعد إخبارها بوجودي.
وجهها مشرق، حضورها بهي، أسلوبها ندي.
استهلتْ كلامها بصوت فيروزي:
_ أهلاً وسهلاً بكاتبتنا الفذة، رَفعتِ اسم محافظتنا وبلدنا عالياً، بإسمي واسم جميع الكادر الطبي نرحب بكِ، نُباهي بإنجازاتك، قرأنا كل حرف كتبتيه، ولكن لم نرتوِ بعد.
بانتظار المزيد من سَيْلِ و جمالية قلمك، بكل شغف وحُبور.
مَشَتْ باتجاه النافذة، تَتَبَّعَتْ عيوني مسارها بفضولٍ مُحتدِم، أزاحَتْ الستارة المزخرفة، سمحتْ لجدائل الشمس أن تفردَ ضياءها، حاملة لشعلة الطاقة الإيجابية قادمة نحوي، ثم غادرتُ بعد أن بادلتهن أعذب التحايا، وعدتُ إلى بيتي بروحٍ متجددة.
بقلمي:
walaa Qwasmeh
27/1/2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق